يحكى انه في زمنٍ بعيد، كان هناك ثلاثةُ إخوةٍ يسيرون في طريقٍ موحشٍ متعرّجٍ عند الغروب. حتى إذا بلغوا نهراً عريضاً جارفَ الماءِ، لا يُمكن عبوره، وقفوا متحيّرين. غير أنهم كانوا من أهل العلم بالسحر والفطنة، فأشاروا بعصيّهم فإذا بجسرٍ يمتدّ فوق الماء ولمّا همّوا بالعبور، ظهر لهم على الطريق رجلٌ مهيبٌ تعلوه عباءةٌ سوداء تخفي ملامحه… وقد كان ذلك الموت شاعراً بالخداع ! إذ جرت عادته أن يبتلع ذلك النهرُ كلَّ عابرٍ إليه فلا ينجو أحد، ولكن الموت كان ماكرًا حاذقًا، فتظاهر بالرضا عن الإخوة الثلاثة على حيلتهم وقال مهنئاً «لقد غلبتموني بالحيلة، ولكلّ منكم جائزةٌ يختارها مكافأةً على دهائه» فقال الأخ الأكبر وقد امتلأ قلبه كبرياءً وغرورًا «أعطني عصًا أعظم من كلّ عصيّ السحرة، لا يُغلب صاحبها، ولا يقهرها أحد» فقطع الموت غصنًا من شجرةِ بُوصَةٍ كانت قريبة، وصنع منه عصًا، وقال «خذها، فهي عصا الشجرة العتيقة، لن يقدر عليها أحد» بعد أن أخذ الأخ الأكبر عصا الشجرة العتيقة من يد الموت، سار متبخترًا إلى قريةٍ بعيدة، وقد انتفخ قلبه نشوةً وغرورًا.…، هناك دخل إلى دارٍ كان يسكنها ساحرٌ قديمٌ كان بينه وبينه عداوةٌ قديمة فرفع عصاه الجديدة وقال بكبرياء:
«انظر! هذه العصا لا يُغلب صاحبها، فهي عصا الموت ذاته!» ثمّ ضرب بها الساحرَ فقتله بضربةٍ واحدة، وراح يملأ المجالس فخرًا بقوّته الجديدة، يتحدث عن سحره العجيب وعن انتصاره على الموت نفسه… لكنّ الليلَ، كما قال الحكماء، لا يترك لأحدٍ نشوةَ النصر طويلاً…! وفي جوف الظلمة، تسلّل إليه رجلٌ طمّاعٌ سمع بخبر عصاه، فقتله وهو نائم وسرق العصا وغادر وهكذا، حين بزغ الفجر، كانت العصا في يد رجلٍ آخر، وكان جسدُ الأخ الأكبر بارداً لا حياة فيه،
ثم قال الأخ الثاني، وقد أراد أن يستهزئ بالموت «أريد أن أستردّ من أحببتها وماتت قبلي، أريد أن أُعيدها من ظلمة القبر إلى نور الحياة» فانحنى الموت والتقط من النهر حجراً صغيراً، وقال له «خذ هذا الحجر، أدره في يدك ثلاث مرات، وسترى من فقدت» فأخذ الرجل الحجر وعاد إلى داره، ثم أدار الحجر بين يديه ثلاثاً، فإذا بالمرأة التي أحبّها تقف أمامه، باهتةَ الوجه، حزينةَ العينين، لا دفء فيها ولا حياة فاشتعل قلبه حنيناً حتى فقد صوابه، ولم يجد راحةً إلا بأن يُلحق نفسه بها… فانتحر وهكذا أخذ الموتُ الاخ الثاني.
أما الأصغر، فكان أكثرهم تواضعاً وحكمة نظر إلى الموت وقال «أريد شيئًا يعينني على أن أغادر هذا المكان دون أن تتبعني» فتنهّد الموتُ طويلاً، ثم خلع عباءته السوداء وقال له «خذها، فإنها تخفيك عني ولن يراك أحدٌ ما دمت ترتديها» وهكذا لبس الأخ الأصغر عباءة الموت، وسار في الأرض خفيًّا، يعيش في هدوءٍ وسلام، لا يعرفه الناس ولا يعرف الموت أين هو ومضت به السنين حتى شاخ وهدأ قلبه فخلع عباءته وأعطاها لابنه ثم جلس في شمس المغيب ينتظر وعندما أقبل الموت أخيرًا مشى معه كما يمشي الرفيق مع صديق قديم وغادر الحياة في سكينةٍ ورضا كما يغادر من انتهت رحلته وعاد إلى بيته.…”
هي قصة تحكي عن الكثير، ولكلِ عالمٍ ودارسٍ ومغامرٍ وجهة نظره، ذاك حسب مدى علمه يختلف منظوره…، فاني رأيت فيها الاخوة الثلاثة رموزاً لتصنيف النفس البشرية من الامارة -الاخ الاكبر بطمعه وغروره وكبره الذي ارداه قتيلا- من نفس لوامة -الاخ الثاني الذي لم ينته من لوم نفسه على فقدان محبوبته ولم يرضى بقوانين الحياة والموت فأردى نفسه قتيلا- ثم للنفس المطمئنة-في الاخ الاصغر الذي يعكس الدهاء والحكمة والقبول بالموت كرفيق لا كعدو يريد التمرد عليه كما فعل اخويه-
ومن منظور اخر، تعكس لنا صراعنا نحن في ذواتنا مع رحلة الحياة فإننا نرغب في القوة، التملك، السلام معاً وفي آن واحد وبلا ضريبة ندفعها ولا قوانين تطبق علينا في حال تمادينا ! وتطرح علينا سؤالاً نتفاداه دوماً الذي هو ما الموت؟
سؤالٌ قديمٌ، سافر مع الإنسان منذ خرج من جنّة الطمأنينة إلى أرض الحيرة.
ظنّه كثيرون نهايةً، فرآه العارفون بدايةً؛
عدّه الناس فناءً، ورآه السالكون كشفًا للحجاب بين العبد وربّه.
وفي هذه الحكاية وما يمكنني وصفه ان الموت لم يكن عدوًّا بل المعلّم الأخير…، ظهر في هيئةٍ مخيفةٍ لأنّ النفوس لم تتطهّر بعد من ظنونها -في بداية الجسر- لكن حين تطهّرت نفسُ الأصغر، انقلب الموت عنده إلى صديقٍ قديم، يُمسك بيده ليُعيده إلى الأصل الذي جاء منه.
كلّ واحدٍ من الإخوة الثلاثة هو مرآةٌ لوجهٍ فينا نحن نحمل في أعماقنا شيئًا من كلّ واحدٍ منهم — نُريد القوة، ونشتاق إلى الغائب، ونتوق إلى السلام. غير أنّ الطريق إلى الطمأنينة لا يُفتح إلا لمن يخلع عن قلبه رداء التملّك، فيرى أن كلّ ما في الوجود عاري من دون الله، تُؤخذ ساعةً وتُردّ ساعةً، كما قال تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
(الملك: 2)
الذين فهموا سرّ الموت لم يعودوا يخافونه لأنهم رأوه في كلّ لحظةٍ من حياتهم…
يموت الإنسان حين يغضب، فيحيا حين يعفو،
يموت حين يكره، فيحيا حين يحبّ،
يموت عن نفسه، فيحيا بربّه.
وهذا هو الفناء الذي تحدّث عنه الصوفية، الفناء الذي يليه البقاء:
“الفناء عن الأنا، والبقاء بالهو، لا بي”
لقد أراد الأخ الأكبر أن يخلّد نفسه بالقوة، فلم يزد إلا ضعفًا.
وأراد الأوسط أن يخلّد حبّه بالذاكرة، فهلك بالحسرة.
أما الأصغر، فترك التملّك كلّه وسار على الطريق بخفّة مَن علم أنّ كلّ شيءٍ لله وحين حان لقاؤه بالموت لم يُغلق عينيه رعبًا بل فتحهما حبًّا، لأنّ من يرى وجه الله في الحياة، لا يغيب عنه في الممات.…،
قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾
(فصلت: 30)
فلا خوفٌ بعد الفهم… ولا حزنٌ بعد الرضا ذلك لأنّ الموت لا يقطع الطريق على من عرف المقصد، بل يُكمّل الرحلة.
وإنّ أجمل ما يُقال في نهاية هذه الحكاية:
أنّ كلّ إنسانٍ يعبر نهره يوماً ما…،
نهر الخوف،
نهر الرغبة،
نهر الذاكرة
لكنّ الحكمة أن لا تصنع جسرك بالعصا، ولا بالحجر، بل بالقلب ذاك لأنّ القلب وحده هو الذي يعرف الطريق إلى الله سبحانه دون خريطة.
فيا أيها القارئ، إن مررت بنهرٍ لا يُعبر فاذكر أنّ الموت ليس خصمك، بل ظلّك، وأنّ كلّ ما تفقده إنما يعود إليك في هيئةٍ أخرى وأنّ النهاية ليست آخر السطر بل بداية النصّ الذي لا ينتهي.…،




قصة قبل النوم، كلش حلو كلامك💗